الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل
.تفسير الآيات (15- 16): القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [15- 16].{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} أي: جبالاً ثوابت: {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي: تضطرب: {وَأَنْهَاراً} أي: جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى آخر، رزقاً للعباد: {وَسُبُلاً} أي: طرقاً يسلك فيها من بلاد إلى غيرها، حتى في الجبال، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} [الأنبياء: 31] {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: بها إلى مآربكم.{وَعَلامَاتٍ} أي: دلائل يستدل بها المسافرون من جبل ومنهل وريح، براً وبحراً، إذا ضلوا الطريق: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} أي: في الظلام براً وبحراً. والعدول عن سنن الخطاب إلى الغيبة؛ للالتفات. وتقديم {بالنجم} للفاصلة، وتقديم الضمير للتقوي. وهذا أولى من دعوى الزمخشري، أن التقديم للتخصيص بقوم هم قريش لكونهم أصحاب رحلة وسفر، وذلك لأن الخطاب في الآيات السابقة عاماً فكذا يكون في لاحقها.تنبيه:قال في الإكليل: هذه الآية أصل لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق..تفسير الآيات (17- 18): القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [17- 18].{أَفَمَن يَخْلُقُ} أي: كل شيء، لاسيما تلك المصنوعات العظيمة المذكورة، وهو الله الواحد الأحد: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} أي: شيئاً ما، وهو ما يعبدون من دونه، وهذا تبكيت للمشركين وإبطال لإشراكهم بإنكار أن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك، بل على إيجاد شيء ما.وزعم الزمخشري ومتابعوه، أن قضية الإلزام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق. ثم تكلموا في سره. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عِمْرَان: 36]، فجدد به عهداً: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي: فتعرفوا فساد ذلك، فإنه لوضوحه لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر.ثم نبه، سبحانه وتعالى، على كثرة نعمه عليهم وإحسانه بما لا يحصى، إشارة إلى أن حق عبادته غير مقدور، بقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} أي: لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم، فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر: {إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. قاله الزمخشري.ولحظ ابن جرير، أن مغفرته تعالى ورحمته لهم، إذا تابوا وأنابوا. أي: فيتجاوز عن تقصيرهم بشكرها الحقيقي، ولا يعذبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى طاعته.لطيفة:قال أبو السعود: كان الظاهر إيراد هذه الآية عقيب ما تقدم من النعم المعددة، تكملة لها على طريقة قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. ولعل فصل ما بينهما بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ} [النحل: 17]؛ للمبادرة إلى إلزام الحجة، وإلقاء الحجر، إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل، التي هي أدلة الوحدانية..تفسير الآيات (19- 21): القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [19- 21].{وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي: من أعمالكم وسيجزيكم عليه.{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: فأنى تستحق الألوهية، وقد نفي عنها أخص صفاتها؟ فإنها ذوات مفتقرة إلى الإيجاد. أو المعنى: أن الناس يخلقونها بالنحت والتصوير. وهم لا يقدرون على نحو ذلك، فهم أعجز من عبدتهم. كما قال الخليل عليه السلام: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95- 96].ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم ما ينافي الألوهية بقوله:{أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} أي: هي جمادات لا أرواح فيها، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل. وقوله: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} تأكيد أو تأسيس، لأن بعض الأموات مما يعتريه الحياة، سابقاً أو لاحقاً، كأجساد الحيوان، والنطف التي ينشئها الله تعالى حيواناً. فلذا احترز عنه بقوله: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} أي: لا يعتريها الحياة أصلاً. فهي أموات على الإطلاق، حالاً ومآلاً: {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي: تلك الأصنام المعبودة: {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي: متى يكون بعثها. وقد رُوي أنها تبعث، ويجعل فيها حياة، فتبرأ من عابديها، ثم يؤمر بها وبهم جميعاً إلى النار.وجوَّز عود الضمير إلى عابديها. أي: وما تشعر الأصنام متى يبعث عبدتهم تهكماً بحالها؛ لأن شعور الجماد محال. فكيف بشعور ما لا يعلمه إلا الله؟ وفيه إشعار بأن معرفته وقت البعث من لوازم الألوهية، وقوله تعالى:.تفسير الآيات (22- 23): القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [22- 23].{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} تصريح بالمدعى، وتمحيض للنتيجة، غب إقامة الدليل. كما أفاده أبو السعود: {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} أي: لوحدانيته تعالى، جاحدة لها، كما أخبر عنهم، متعجبين من ذلك بقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، وقال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]، وقوله تعالى: {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أي: عن عبادته تعالى.{لاَ جَرَمَ} أي: حقاً: {أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} أي: عن التوحيد، وهم المشركون، أو عن الحق مطلقاً فيتناول هؤلاء. وهذا كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]..تفسير الآيات (24- 25): القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [24- 25].{وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي: لم ينزل شيئاً. إنما هذا الذي يتلى علينا أحاديث الأولين، استمدها منها. كما قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5].{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: قالوا ذلك ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم، وهي أوزار ضلالهم في أنفسهم، وبعض أوزار من أضلوهم، كقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13]، فاللام في قوله: {لِيَحْمِلُوا} لام العاقبة؛ لأن ما ذكر مترتب على فعلهم. ولا باعثاً إما مجازاً، وإما حقيقة، على معنى أنه قدر صدوره منهم ليحملوا. وقد قيل: إنها للتعليل وإنها لام أمر جازمة. والمعنى: إن ذلك متحتم عليهم. فيتم الكلام عند قوله: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} كذا في العناية. وقوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال الزمخشري: حال من المفعول: أي: من لا يعلم أنهم ضُلال. وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه، وإن لم يعلم؛ لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل. فجهله لا يعذره: {أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي: ألا بئس ما يحملون. ففيه وعيد وتهديد..تفسير الآية رقم (26): القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [26].{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: بأنبيائهم: {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} أي: قلع بنيانهم من قواعده وأُسُسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم والإتيان يتجوز به عن الإهلاك كقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]، ويقال: أُتِي فلان من مأمنه، أي: جاءه الهلاك من جهة أمنه. وأتى عليه الدهر: أهلكه وأفناه. ومنه الأُتُوُّ وهو الموت والبلاء. يقال أتى على فلان أتوُّ، أي: موت أو بلاء يصيبه. وقد جوَّز في الآية إرادة حقيقة هلاكهم. كالمحكي عن قوم لوط وصالح عليهما السلام، فيما تقدم. أو مجازه على طريق التمثيل؛ لإفساد ما أبرموه من هدم دينه تعالى. شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد، للإيقاع بالرسل عليهم السلام. وفي إبطاله تعالى تلك الحيل، وجعله إياها أسباباً لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنياناً وعمَّدوه بالأساطين. فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف فهلكوا. ووجه الشبه: أن ما عدوه سبب بقائهم، عاد سبب استئصالهم وفنائهم، كقولهم: من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً. وقوله: {مِن فَوْقِهمْ} متعلق بـ خَرَّ. و{من} لابتداء الغاية، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من {السقف} مؤكدة. وقيل: إنه ليس بتأكيد؛ لأن العرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط، إذا انهدم في ملكه وإن لم يقع عليه: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} أي: الهلاك والدمار: {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: لا يحتسبون..تفسير الآية رقم (27): القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [27].{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} أي: يذلِّهم ويهينهم بعذاب الخزي. لقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عِمْرَان: 192]، {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي: تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم. وفيه تقريع وتوبيخ بالقول، واستهزاء بهم؛ إذ أضاف الشركاء إلى نفسه لأدنى ملابسة، بناءً على زعمهم، مع الإهانة بالفعل المدلول عليها بقوله: {يُخْزِيهِمْ} أي: ما لهم لا يحضرونكم ليدفعوا عنكم! لأنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقول فالأصنام تشفع لنا. فهو كقوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]. وقيل: حكي عن المشركين زيادة في توبيخهم {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} وهم الأنبياء أو العلماء، الذين كانوا يدعونهم إلى الحق فيشاقونهم: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ} أي: الفضيحة والعذاب: {عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: المشركين به تعالى. ما لا يضرهم ولا ينفعهم. وإنما قال: {الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} هذا شماتة بهم، وزيادة إهانة بالتوبيخ بالقول، وتقريراً لما كانوا يعظونهم، وتحقيقاً لما أوعدوهم به..تفسير الآيات (28- 29): القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [28- 29].{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} هذا إخبار عن حال المشركين الظالمي أنفسهم بتبديل فطرة الله، عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم، بأنهم يلقون السلم، أي: ينقادون ويسالمون ويتركون المشاقة. والعدول إلى صيغة الماضي؛ للدلالة على تحقق الوقوع. وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهار الانقياد، إشعاراً بغاية خضوعهم واستكانتهم. وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب على الاستعارة. وقوله تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} منصوب بقول مضمر، حال. أي: قائلين ذلك. أو هو تفسير للسلم الذي ألقوه؛ لأنه بمعنى القول، بدليل الآية الأخرى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْل} [النحل: 86]، كما يقولون يوم المعاد: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18]. ثم أخبر تعالى أن الملائكة تجيبهم بقوله: {بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: فلا يفيد الإنكار والكذب على الأنفس: {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: مقدراً خلودكم.قال ابن كثير: وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها. من حرها وسمومها. فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] كما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وقوله: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: بئس المقيل والمقام لمن كان متكبراً عن آيات الله وإتباع رسله. فذكرهم بعنوان التكبُّر؛ للإشعار بعليته لثوائهم فيها. ولما أخبر عن الأشقياء بأنهم قالوا في جواب: {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} هو: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فجحدوا رحمته وكفروا نعمته، تأثره بالإخبار عن السعداء الذين اعترفوا بخيره ورحمته، بقوله تعالى:.تفسير الآية رقم (30): القول في تأويل قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [30].{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ} وهم المؤمنون: {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} أي: أنزل خيراً، أي: رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به. ثم أخبر سبحانه عما وعد به عباده بقوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} أي: لمن أحسن عمله، مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها. فقوله: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} متعلق بـ: {حَسَنَةٌ} كتعلقه بـ: {أَحْسَنُواْ}. قال الشهاب: والحسنة التي في الدنيا: الظفر وحسن السيرة وغير ذلك. وهذه الآية كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَة} [آل عِمْرَان: 148]، وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عِمْرَان: 198]، وقال: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]. ثم وصف تعالى الدار الآخرة بقوله: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}..تفسير الآيات (31- 32): القول في تأويل قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [31- 32].{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤونَ} كقوله: تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، {كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ}.ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار، في مقابلة أولئك، بقوله سبحانه: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائكَةُ طَيِّبِينَ} أي: طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وكل سوء: {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: لتدخل أرواحكم الجنة، فإنها في نعيم برزخي إلى البعث. أو المراد بشارتهم بأنهم يدخلونها كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] الآيات.ثم أشار إلى تقريع المشركين، وتهديدهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا بقوله تعالى:
|